المادة    
الأمر الثاني: هدي السلف الصالح، وهم خير الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )، فهم أفضل القرون وأكثرها طاعة لله تبارك وتعالى واتباعاً لما جاء من عند الله، وقد كان الشائع المنتشر بينهم والمتعارف عليه الذي يوصي بعضهم بعضاً به هو الدعاء لا الإهداء، والإهداء ثابت، وسنعرض -إن شاء الله تعالى- لأدلته في بعض ما ثبت، ولكن لم يكن هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم الإكثار منه كما فعل المتأخرون.
وهذه من الوقفات المهمة التي يجب أن نقف عندها ملياً، فليس ورود حديث أو نص معين، أو فعل لأحد السلف في أمر مسوغاً وحده للناس أن يفتحوا الباب على مصراعيه فيقيسوا على هذا الحديث أو على هذا النص، ويحاولوا أن يعمموا أحكامه ويزيدوا في تطبيقه على ما عمل به الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم.
فهذه القربة -وإن كانت ثابتة وصحيحة عنهم- لا يزاد في عملها ما كان في عهدهم هو المنتشر والسائد، فما كان عاماً جعلناه عاماً، وما كان قليلاً جعلناه قليلاً، وإن كان هذا ثابتاً عنهم وهذا ثابتاً، لكن هذا ثابت ثبوتاً عمومياً بينهم، وهذا ثابت ثبوتاً خاصاً في حالات معينة، وهذا هو الاقتداء بهم.
وليس شرطاً في كل مبتدع يبتدع في الدين أن يأتي بأمر لم يفعله السلف، فهذا نوع من البدعة معروف، لكن هناك نوع آخر، وهو إذا عمم ما خصصوا أو خصص ما عمموا، فهذا أيضاً من البدعة، وهو بدعة في الكيفية وفي الامتثال وفي التطبيق، فخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الناس بعده صلى الله عليه وسلم هم صحابته، فلم يعهد في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة الكرام أنهم غلبوا الإهداء على الدعاء، ونحن لا نقول: إنه غير مشروع مطلقاً، ولا نرد قول من قال به، وسيأتي -إن شاء الله- شرح هذا، لكن نقول: إن الغالب في عهدهم الذي نوصي به الأمة أكثر ونحثها عليه ونربيها عليه هو الدعاء، وأما الإهداء فله مواضع مخصوصة، فما ثبت منها فإنه يصح بإذن الله.
وأما التوسع الذي حدث من المتأخرين قياساً على ما ثبت فمحل خلاف بين العلماء، وحسب المؤمن أن يعلم أن هدي السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم هو التوسع في الدعاء وليس التوسع في الإهداء؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضلة أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم).
فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة -على خلاف في القراءة- جاز ذلك، ومع ذلك لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا أو حجوا أو قرءوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم.
فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف؛ فإنه أفضل وأكمل، ولا يمكن أبداً -كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه-: (أن يخبأ شيء عنهم ونناله لخير فينا)، بل كل خير في اتباع ما فعله السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم.
  1. واقع المسلمين اليوم في مسألة الدعاء والإهداء للميت

    وعليه فإن ما نراه اليوم في واقع المسلمين من إهمال الدعاء -بل ولو كان الدعاء مساوىً بالإهداء- مخالف لهدي السلف الصالح. وهو أكمل الهدي وأفضله. فالواجب على دعاة المسلمين في كل مكان وعلمائهم ووعاظهم أن يبينوا هذا للمسلمين، فإن المشاهد الآن أن الناس يغفلون عن طاعة الله ويغفلون عن عبادة الله، وينظرون إلى العبادات وإلى الطاعات نظرة من لا يعبئون بها، إلا من شاء الله، حتى إذا مات الميت تذكر أهله أنه يحتاج إلى الأجر وأنه يحتاج إلى العمل الصالح، فابتدعوا تلك البدع، كاستئجار من يقرأ القرآن، وإقامة العزاء وذبح الذبائح، وما أشبه ذلك مما يدخل في باب النياحة أو غيره من أبواب البدع. فهنا فقط أحسوا بأن هذا الميت يحتاج إلى الأجر، مع أن التقصير كان كثيراً في حياته، فأين كان الابن الذي يهدي هذه الهدايا ويفعل هذه الأعمال على ما فيها من بدع في حياة أبيه؟ لم لم ينصحه؟ فكثير من الناس يهمل جانب النصيحة لأبيه أو لأخيه أو لقريبه، ويهمل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان أسباب تقوية الإيمان وزيادته، وأسباب الارتباط بالله سبحانه وتعالى وبعبادة الله، يهمل ذلك كثيراً ولا يبالي، فإذا وقعت الواقعة بدأ يعمل هذا، ومع مرور الزمن أصبح بر الأب وعمل الخير الذي تريد أن تعمله لأبيك كأنما يبدأ بعد موته، فإذا مات بدأ الناس يأتون بهذه الأعمال التي تخالطها البدع، مع أنه لو ذُكِّر بالله في حياته ودعي إلى الخير واجتهد هو في طاعة الله لكان ذلك خيراً له، فهذا هو الأصل، ولا يتعارض هذا مع الإهداء المشروع بعد الموت، فيكون خيراً إلى خير، أما أن يتكل على هذا ويغفل عن الأساس؛ فهذا هو الخلل الذي دخل في حياة المسلمين اليوم، وذلك بسبب أنهم تركوا وخالفوا منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم في هذا الشأن، كما هو الحال في كثير من الأمور، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين؛ إنه سميع مجيب.